د. ياسر عبد الحسين
الدبلوماسي هو انسان بالطبع، والانسان هو حيوان سياسي كما يقول (أرسطو)، أيا كان نوع هذا الانسان، سواء كان انسان (هوبز) بكونه الكائن الذي ينجذب نحو اقطاب العنف والقوة في إطار حرب الجميع ضد الجميع، أو إنسان (مكيافيلي) الذي يتخذ شكل الأمير ليقلد الأسد والثعلب معًا، وهكذا هو الدبلوماسي مثل بقية البشر كائن رمزي يخضع الى أنماط جدل الهوية والانتماء، يخطأ بالواقع والتجربة ويدخل متاهات وتحديات، رغم التمييز الطريف بين السياسي والدبلوماسي ربما يكون صحيحًا بينهما حيث ان السياسي هو الشخص الذي يقرر على الفور التحدث لساعات حول قضية ما، دون حتى التفكير بها، بينما يفكر الدبلوماسي لساعات ليقرر عدم قول أي شيء.
الجزء البسيط من هذا العالم منها تصوره الروائية (أجاثا كريستي) في روايتها (راكب إلى فرانكفورت) التي تدور قصتها حول الدبلوماسي (ستافورد ناي) الذي يحدث له شيء غريب في المطار، إذ تطلب منه امرأة أن يعطيها جواز سفره وملابسه كي تسافر هي بدلا منه، بحجة أن شخصاً ما يترصدها ويريد القضاء عليها، وبموافقة الدبلوماسي على طلب المرأة، يكون قد ورط نفسه للدخول في عالم غامض متشابك بالمتاهات والاحداث، هذه هي الدبلوماسية التي وصفها الأمين العام السابق للأمم المتحدة الراحل (كوفي عنان) بأنها مشاكل بدون جوازات سفر.
أو كما يقول الدبلوماسي المخضرم (هنري كيسنجر) هي فن المراكمة الصبورة لنجاحات جزئية، وفعلا هذه المراكمة تحتاج الى تدريب، ولهذا فكل وزارات الخارجية في العالم تسعى لتعزيز وتدريب وتطوير كوادرها وتوسيع مدارك وثقافات جيوشها الدبلوماسية التي تنطلق بين افق قارات العالم السبع، وكما يقول أحد الدبلوماسيين: ( Diplomats Are Made, Not Born)، فهو يصنع فعلا ولا يولد.
على مر تاريخ السجل الدبلوماسي كانت شروط نجاح الدبلوماسي ومهمته ترتبط بعدة قضايا تتعلق بضخامة أصناف الطعام التي تقام على موائده، واصوله الارستقراطية، وطريقة ترتيب شعره المستعار، أو كما يقول (هارولد نيكولسون) بأن الصفات الرئيسية للدبلوماسي المثالي هي الصدق، والدقة، والهدوء، والصبر، والمزاج الجيد، والحياء، والولاء، ويقول: (قد يعترض القارئ، لقد نسيت الذكاء والمعرفة والفطنة والحصافة والضيافة والسحر والصناعة والشجاعة وحتى اللباقة، أنا لم أنساهم، لقد أخذتها كأمر مسلم به)، لكن اليوم باتت المعايير مختلفة وتضاف اليها قائمة من المتطلبات منها الثقافة الواسعة وأدوات الدبلوماسية الناعمة والرقمية واجادة اللغات وغيرها، كلها مواصفات ضرورية ومهمة، لكن بلا بوصلة وشعور بالانتماء لن يكون لهذه الأدوات أي فائدة، فثمة مسلمات اهم من تلك المواصفات تلك تتعلق بمدى ارتباط الدبلوماسي بهوية بلده والتعبير عنها، مهما تضع التقاليد والاوامر الصارمة وقواعد الأعراف الدبلوماسية منهجه الوظيفي يبقى معيار الانتماء وعقيدة الدبلوماسي هي الموجه الحقيقي لعمله وتحقيق واجباته، وقد يقول قائل انه امر مسلم به، اعتقد في عالم اليوم باتت هذه المقولة بحاجة الى مراجعة.
هل نحتاج الى عقيدة دبلوماسية؟
يقول السفير الإيطالي (بييترو كوراني) بأن الدبلوماسية بأنها كرسي من الدرجة الأولى في مسرح الحياة، ولكن يحتاج هذا الكرسي في هذا المسرح الى عقيدة تجعله راسخا في هذا المسرح، على الرغم ان مفهوم العقيدة ارتبط بالجانب العسكري، لكن نحن بحاجة الى صياغة روحية الانتماء، فكل المتخصصين في الدبلوماسية كتبوا عن اليات نجاح العمل الدبلوماسي، لكن يبقى شغف وفن صناعة الدبلوماسية يعتمد على مدى استيعاب وايمان الدبلوماسي بفكرة واهداف الدولة التي ينتمي اليها، وقد يقول سائل هذه مسلمة من المسلمات، وسياق طبيعي ان يؤمن الجندي بالمعركة التي يخوضها، لكن اهتزازات كبيرة تعرض هوية الدبلوماسي كموظف الخدمة الخارجية اكثر من غيره لهذه الأسئلة الهوياتية التي تواجهه، مثل طبيعة الانتماء والهويات الفرعية، ورؤيته السياسية او انتماءه، وطبيعة ملاحظاته على النظام السياسي الذي يمثله وغيرها من الأسئلة المهمة، فهدف الدبلوماسي الحقيقي هو البحث عن المصالح الوطنية للبلد الذي يمثله على احسن وجه، وبالتالي فان عدم شعور الدبلوماسي بالانتماء الحقيقي سيؤدي الى انكسارات لا تقل أهمية عن خسارة الجيوش لمعاركها من احباط وتسلل اليأس وبالنتيجة عندما يفقد الدبلوماسي الصلة مع مراكز القرار سيضع المنافسون جدول الاعمال وتتحول تلك الممارسة الى وظيفة ساعي بريد فخري بل كما يقول الدبلوماسي المخضرم وزير الخارجية الأمريكي الاسبق جيمس بيكر ناصحا: (لا تدع الزميل الآخر يضع جدول الأعمال أبدًا).
لهذا ستكون هناك حاجة ماسة الى العقيدة الدبلوماسية التي تعتمد على ترسيخ الضمير والشعور بالانتماء، يكون هناك إحساس عالٍ بالواجب والانضباط الذاتي والنظام، كل هذه العوامل تمكن من تحقيق نتائج جيدة أثناء العمل الدبلوماسي، حيث يمكن لأي مؤسسة ما أن تمتلك أفضل بنية تحتية للتدريب والتطوير المهني، لكنها ستكون عديمة الفائدة دون ان تكون اهداف واضحة لهذا التدريب والمتعلقة بالبناء الدبلوماسي.
فكرة العقيدة الدبلوماسية قد تخضع لمفاهيم خاطئة فانا لا اقصد بها ان تلبس الخدمة الخارجية لباس أيدولوجي او فكري بقدر ما تكون منهجية وطنية راسخة لبناء وتأسيس ثقافي وهوياتي بعيدا عن الثقافة الارتجالية، وكما اني لا أومن بالسياسة الخارجية ذات الوجه الأيديولوجي فقد عفا عليها الزمن مع تعدد الوسائل والأدوات.
فكلمة العقيدة التي ترتبط بمفهوم الخدمة العسكرية لا يعني بالنتيجة ذات المفهوم للخدمة الخارجية حيث ان عملية صياغة العقيدة لا تقل أهمية عن العقيدة نفسها، لان عادة في أوقات الازمات لا يمتلك الدبلوماسي استراحة المقاتل، وبالتالي لا توجد فرصة فسيحة للمراجعة وعليه يجب ان يكون منطلقا من عقيدة دبلوماسية راسخة، وعليه لا يكفي ان تكون للدبلوماسي لغته الجيدة او مظهره اللائق وثقافته العامة بالمستوى المطلوب، بل ايمانه بهوية بلده ودستوره والرؤية العامة للدولة وان كان يختلف معها في الراي الشخصي لكن على مستوى الخدمة الخارجية يطبق رؤية الدولة واستراتيجية الحكومة التي يمثلها بغض النظر عن القضايا الأخرى، وهذا التطبيق لا يعني انعدام الابتكار الإبداعي او فقدان التفكير الذاتي بل عملية موازنة لهذه العقيدة التي يسعى لنقلها في رسالته الدبلوماسية.
ويجب التمييز بين العقيدة والتقاليد والتعليمات، وربما الأولى هي تمثل عن مجموعة من السياسات والتوجيهات العامة التي ترسم خطوط ومساحات التحرك الدبلوماسي في ساحة العمل الدولي، وتحوي كل الثوابت الوطنية التي تسعى رؤية الدولة الى تطبيقها، فما قيمة ان يكون لدينا دبلوماسيين أصحاب مهارات عالية في التفاوض والتمثيل الدبلوماسي واللغة وإقامة العلاقات وشبكة تحليل استراتيجية بدون بوصلة واضحة لعقيدة دبلوماسية وطنية قادرة على التكيف مع السياقات المتغيرة بنفس الوقت.
وكما في المعارك ليس كل الجنود تؤمن بالعقيدة العسكرية، لكن الكل ملزم بتطبيقها حتى المراتب من قادة المعارك انفسهم، لكن على الأقل يتوفر لهم قدر من الايمان بهوية البلد وروحه الوطنية والانتماء الاجتماعي لمكنوناته الثقافية، كذلك الحال قد ينطبق أحيانا على العمل الدبلوماسي، كيف يمكن ان يعمل الدبلوماسي منفصلا عن تلك المنظومة، فمهمة السعي لتنفيذ قرارات القيادة السياسية بشكل أفضل، والمعرفة المهنية بلا بوصلة لن تحقق أي من أهدافها، فمهمة وزارة الخارجية حارسة البوابة المعنوية في الادبيات الدبلوماسية لا تقل عن مهمة الجنود في الميدان لحماية الحدود المادية وامنها القومي.
في علم النفس الدبلوماسي
في علم النفس الدبلوماسي، يميل الدبلوماسيون لتطوير علاقات نفسية مميزة مع هوية دولتهم، بحيث يلتزمون بمظهر الأنا، ويتصرفون نفسياً كوكلاء للدولة، لكن هذه العملية تجعل أنانيتهم سريعة التأثر ليس فقط بمصير مهمتهم ولكن أيضاً بتغير مكان العمل، وبجانب هذا البعد النفسي، هناك مسألة الضغط الناتج عن التفاعل الرمزي مع القيم الوطنية الداخلية، بالمقابل ان الحكومة تنخرط في صراع حقيقي بين مصالح متناقضة داخلية في كثير من الأحيان تنعكس على سلوك الدولة الخارجي وبالتالي على سلوك الموارد البشرية والذي يتحول الى فقدان وتأكل الروحية الموجهة للعقيدة الدبلوماسية.
حيث يبقى الغرض من العقيدة الدبلوماسية هو توفير القواعد العامة لتسيير السياسة الخارجية من خلال القرارات المتعلقة بالعلاقات الدولية، وتسمح هذه القواعد للقيادة السياسية طريقة التعامل الخارجي عبر الحدود الثقافية والوطنية.
لا يجب على الدبلوماسي أن ينمي ويحافظ على درجة معينة من الهوية بل التنكر الى مشاعره الخاصة وليس فقط من اجل الحفاظ على هوية الدولة وذاتها بل يمثل شخصية الوطن وروح البلد على الرغم من ان الدبلوماسيين ليسوا مجرد ارقام صغيرة في آلة السياسة الخارجية، فهم لديهم عواطف ومزاجية شخصية وتحيزات وميول كأي انسان عادي، فهنا يقوم الدبلوماسي بعملية التوازن بين الهوية الشخصية والهوية الوطنية والعمل على إيجاد عنصر التكامل.
وكما جرت الادبيات في العلوم الاجتماعية ومنها العلوم السياسية حيث من الصعوبة ان يتم تحديد مفاهيم الانتماء من قبل مقاييس معينة، لكن لنا ان نتخيل وكما ينقل الدبلوماسي العراقي المخضرم (نجدة فتحي صفوة) في كتابه (حكايات دبلوماسية) ان في وزارة الخارجية الأمريكية ان هناك لجنة خاصة مهمتها التثبت من أخلاص موظفيها تدعى لجنة الولاء، وتستعرض هذه اللجنة سنويا اضبارات جميع الموظفين وتدرس ما يردها خلال السنة من دوائر الأمن والاستخبارات من تقارير ومعلومات تتعلق باتصالات الموظفين الدبلوماسيين واماناتهم، وهذا في بلد يدعي شعار الحريات العامة والديمقراطية، ولكننا لا يمكن ان نفهم ذلك الا من خلال أهمية وخطورة مرض اغتراب الدبلوماسي عن هويته ومؤسسته.
فمهمة الدبلوماسي أخطر من مهنة الطبيب الذي قد يخطأ في عمليته الجراحية فتسبب في مقتل مريضه، ولكن يمكن أن تؤدي العلاقات السيئة بين الدول في كثير من الأحيان إلى أسوأ المساعي البشرية وهي الحرب التي عادة ما تكون هي ثمن ضعف الدبلوماسية، بل الكارثة ان يتحول الدبلوماسي الى منصة لنقل الخلافات السياسية الداخلية الى الخارج وكأنه قناة معادية، وهذا الطعن بالظهر يربك الشركاء الدبلوماسيين ويمكن أن يعيق مجمل الجهود السياسية في الدولة.
المهارات والخبرة المناسبة هي شروط ضرورية لبدء مهنة مرتبطة بالسياسة الخارجية والدبلوماسية، لكنها قد لا تكون كافية مالم تكون مدعومة بالشعور بالانتماء للبلد وجذوره وثقافته، فالمهنة الدبلوماسية، تشبه إلى حد كبير في هذا الصدد الحياة السياسية، لهذا ستكون هناك دائمة حاجة ماسة لوجود رافعات تعزز الروح الوطنية، ففي كثير من الحالات، يتعين على الدبلوماسي الجيد التصرف بناءً على التعليمات المركزية، لكنه أيضًا سيحذر، ويجادل، بل ويحتج في ضوء حكمته ووعيه عندما تعلو المصالح الوطنية فوق كل شيء آخر، وعندما نفتح سجل التاريخ الدبلوماسي سنجد النماذج الدبلوماسية الاحترافية من الشخصيات هي تلك التي هي اقرب اندفاعا للدفاع عن مصالح بلادهم، وكما يبدو ان العالم أصغر بفضل العولمة والتواصل، فان المجاملة الخادعة غالبًا ما تظل الفجوات الثقافية مخفية في العمل الدبلوماسي، فضلا عن ارتباط الثقة السياسية في الداخل بالثقة الدبلوماسية في الخارج.
تبقى الروح المعنوية الوطنية لوزارة الخارجية وكوادرها هي المقياس الحقيقي لاستقرار البلد وانعكاس لطبيعة النظام السياسي.
قناة الميادين