ياسر عبد الحسين  ياسر عبد الحسين

آخر المقالات

جاري التحميل ...

من يحكم «نحن» في العلاقات الدولية؟


د. ياسر عبد الحسين 




«نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا... أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف»؛ هذه العبارات التي وضعت في صدر ديباجة ميثاق الأمم المتحدة. فلسفة الضمير (نحن) قدّر لها أن تعبّر عن صدى صوت الرأي العام الإنساني وشعوب العالم، الذي أراد التخلّص من سيلان الدم المتدفّق في بقاع الأرض من حروب، ومؤامرات وديبلوماسية سرّية، وصفقات تحت الطاولة تقرّر نيابة عن مصير الـ«نحن» كيفما تشاء. وبنيت فكرة النظام العالمي على يافطة عريضة مفادها الأساسي «لن نسمح بتكرار ما حدث سابقاً»؛ فلن تمحى دول عبر حروب كبرى، ولا مشارط جديدة لخرائط تنشأ، ولا حروب إبادة جماعية.

بطبيعة الحال، تدار السياسة من قبل القلة أو النخبة في إطار هياكل داخلية معقدة، لكنها بالنتيجة تتأثر بمزالق وتوجهات السلطة الشعبية رغم ارتدائها الأوليغارشية الدولية، بينما غالبًا ما يُهمّش عامة الرأي العام، وحتى في المجتمعات الأكثر ديموقراطية، وبالتالي لا يمكننا أن نكتسب فهمًا واقعيًا لمن يحكم «نحن».

في العلاقات الدولية القاعدة الأساسية فيه أن القوة موزّعة بشكل غير متساوٍ، فالحصّة الأكبر من التأثير للقوى الكبرى، وحتى الشركات المتعددة الجنسيات الكبرى، تملك تأثيرًا كبيرًا بسبب مواردها الاقتصادية، العسكرية، والتكنولوجية، وإن هذه الجهات غالبًا ما تشكّل القرارات العالمية، سواء عبر الهيمنة السياسية، الاقتصادية، أو حتى الثقافية، وعلى الدول الصغيرة والمجتمعات أن تنفذ تلك الإستراتيجيات مهما تحاول عبر إستراتيجيات مختلفة للتحايل سواء عبر التحالفات، الديبلوماسية الذكية وغيرها.

لكن الواقع يظل معقدًا: النظام العالمي يميل لصالح الأقوياء، والتحرّر الكامل من تأثيرهم يتطلب جهودًا استثنائية. يخبرنا سجل تاريخ العلاقات الدولية، بأن عشرة أيام كانت كفيلة لمؤتمر القاهرة عام 1921 أن يرسم ملامح الشرق الأوسط وفق مقاسات القوى الكبرى تحت خياط ماهر كان هو بريطانيا، ليصنع ثوباً كان على دول الشرق الأوسط، مثل العراق وفلسطين وشرق الأردن، أن ترتديه، بعد خلو خزانة العرب من زي الدولة العثمانية الثقيل والمهترئ عقب الحرب العالمية الأولى، وإن كانت صفة العالمية على ما يقول أنطونيو غرامشي إن الهيمنة تنجح عندما تتمكّن من تصوير مصلحة معيّنة على أنها قيمة عالمية.

كتب ونستون تشرشل: «لقد ولّت أيام معاهدتي أوتريخت وفيينا، حيث كان رجال الدولة والديبلوماسيون الأرستقراطيون المنتصرون والمهزومون على حد سواء، يجتمعون على محادثات مهذبة راقية، بعيداً من قعقعة الديموقراطية، بغية إعادة تشكيل الأنظمة على أسس يتفقون عليها جميعاً، أمّا الشعوب التي تحرّكها معاناتها وتلمّها تعاليم جماهيرية ليس إلا، فقد وقفت بعشرات الملايين في إصرار أن يفرض القصاص على أكمل وجه». يبدو أن هذا النص التاريخي يجسد حالة تتكرر في عالم اليوم، فمائدة القوى الكبرى تقتسم وتقرر وتتفق في حياة الشعوب، و«شبح هوبز» يقترب من عالمنا ويهمين على مقدراته.

ولاحقاً، كان مؤتمر طهران عام 1943 والذي شارك فيه كل من روزفلت وتشرشل وستالين ليحدّدوا مسيرة العالم عبر فتح الاتحاد السوفياتي جبهة ثالثة ضد النازية، بالمقابل ضمن المؤتمر موافقة مبدئية للسوفيات على مطالبهم في البلطيق ورومانيا وبولونيا، ضمن نطاق صغير من حجم العالم يحدد أسر المنطقة بأكملها. وهكذا كل مسيرة العلاقات الدولية في بحار من مقررات كبارها الأقوياء لا مقررات شعوبها.

وهذا ما يحصل اليوم في المنطقة من إعادة رسم حدودها الوستفالية القديمة في أوروبا ومن سايكس بيكو جديدة تمحي من المشرق ما تحلو لها كما يزيل الذكاء الاصطناعي ويلغي ما يشاء من قدرات العقل الإنساني الخلاق والتفكير الإبداعي، وكما توقع من سنوات طويلة فريدريك أنغلز بأن تستبدل حكومة الأشخاص بإدارة الأشياء.
فهل تترك الشعوب خيارات الكبار واللاعبين في تحريك مقدرات شعوب بأسرها فتهجر شعوب وتقام دول وتقسم أخرى في مذبحة تاريخية وفي عوالم لم يحصل لها مشابه سابقاً.

من يحكم «نحن»؟ كما يقول تشومسكي: «من الاتفاقية القياسية للإجابة عن هذا السؤال غالبًا ما تفوت الهدف». المهمة العسيرة في هذه الحقبة، لا تبدو عودة لشكل الدولة القومية ولا بقاء الوضع الراهن، إنها حفلة بوكر، والحسم لمن يرمي النرد. يمكن أن تنزلق في أي لحظة إلى عالم صفري الصراع، في ظل مراحل الانحدار المربك بغياب رؤية إستراتيجية خلاقة لكي تشرك مجتمعها وتوجهها في ظل هذا الاتجاه المنحدر والقاسي في تاريخ البشرية. فمن من الشعوب سوف تمتلك هذه الإرادة، وعلى الأقل معركة كسب الوقت، سوف ينجو في طوفان القبح الإنساني القادم.

كتبت مس بيل إلى إحدى صديقاتها أثناء عودتها على متن قطار إلى بغداد من بعد القاهرة عام 1921 بعد انتهاء المؤتمر: «سيكون الأمر ممتعاً، سنغيّر العالم إذا نجحنا في ذلك، سيكون بداية لشيء جديد مثالاً يحتذى به لا مثالاً يتقى». واليوم بعد أكثر من مئة عام ما يزال فشل التوصيات الجيوسياسية التي اقترحتها سياسات تقرّر «نحن» للشرق الأوسط على مختلف الأصعدة بعد ضياع فرصة عظيمة ما تزال تداعياتها الوخيمة في المنطقة حاضرة اليوم.

مفهوم أن الدول أو الأفراد «مسيرون» وليسوا «مخيرين» في العلاقات الدولية يعكس فكرة أن القوى الهيكلية ــــ مثل الجغرافيا السياسية، الاقتصاد، أو الهيمنة العسكرية ـــ غالبًا ما تحدد الخيارات المتاحة أكثر من الإرادة الحرة.

جريدة الاخبار 

عن الكاتب

د.ياسر عبد الحسين

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

ياسر عبد الحسين