ياسر عبد الحسين  ياسر عبد الحسين

آخر المقالات

جاري التحميل ...

الديبلوماسية كخدعة: نصائح مكيافيلي إلى سفير شاب




د. ياسر عبد الحسين 




 في عالم يتداعى، تصبح التفاهة نظاماً وجودياً، وتدخل المفاهيم السائدة متاهات التناقض والانحطاط القيمي. مثلاً: كانت الحقيبة الديبلوماسية مملوءة بملفات صناعة السلام والتقارب، لتتحوّل اليوم إلى بيدق لخارطة الخداع، أو غطاء للمسرح السياسي الدامي، أو ستاراً دخانياً لإخفاء الدوافع المنافسة، أو قطعة القماش التي تغطّي فوهة المدافع من أجل إيهام الخصم عن لحظة ساعة الصفر.

غالباً ما كانت تُعدّ الديبلوماسية وسيلةً لحل النزاعات، وبناء الثقة بين الدول، لكن بات استخدامها كأداة للتضليل، لما يسمّى بحرب الكمائن، لتكون الديبلوماسية أشبه بدراما عالية المخاطر. ولا نتحدّث عن البُعد الأخلاقي للديبلوماسية فالبحث في هذا السياق هو استثناء شاحب وباهت. حتى مؤسس الواقعية في علم السياسة مكيافيلي، لم يكن يتخيّل أن تتحوّل الديبلوماسية وأخواتها من مفاوضات ووساطات ومباحثات إلى وسيلة للخداع والمواربة.

لنعد إلى عام 1522 حين أرسل مكيافيلي رسالة تضمّنت نصائح في العمل الديبلوماسي إلى الشاب رافائيلو جيرولامي الذي كان يستعدّ للعمل سفيراً لفلورنسا لدى الإمبراطور الإسباني شارل الخامس. كتب الديبلوماسي المخضرم: «سأخبرك بعد أن اكتسبت بعض الخبرة في الشؤون الديبلوماسية، ليس من باب الغرور بل من باب المودة، بما تعلمته عنها».

يبدأ ابن فلورنسا نصائحه للسفير الشاب بقوله: «قبل كل شيء يجب على الممثل الديبلوماسي أن يسعى جاهداً إلى كسب السمعة، وهو ما يفعله عبر اتخاذ أفعال تُظهره كرجل كفوء، وأن ينظر إليه على أنه حر ونزيه، لا يكون بخيلاً أو مقلّداً، وألا يبدو وكأنه يُصدّق شيئاً ويقول شيئاً آخر». في هذه النصيحة، يرى أن الديبلوماسيين الذين يعدّهم مضيفوهم في ساحات عملهم مخادعون سرعان ما يفقدون الثقة، في حين هذا ما نراه في عالم اليوم من إظهار الديبلوماسية كجزء من مكياج سياسي يخفي العيوب والنوايا، وكأن القاعدة هي اللعبة الصفرية التي يبحث فيها كل طرف عن مهمة التزييف.

وقد يقول قائل: ألا يتناقض ذلك مع دعوة مكيافيلي بأن الأخلاق والاستقامة والصدق لا تصلح في السياسة والحكم. أخلاق الفرد غير أخلاق الدولة حتى في مجال العلاقات الدولية؛ هو يقول في سفره الخالد «كتاب الأمير» أن الأمراء الذين حققوا إنجازات عظيمة «هم أولئك الذين عرفوا كيف يتلاعبون بعقول الناس بمكر، وفي النهاية تجاوزوا أولئك الذين أسسوا حياتهم على الإخلاص». ولعل ذلك يبيّن عبقرية مكيافيلي في التمييز بين العمل السياسي والعمل الديبلوماسي، ما بين الأمير والسفير، فليس هدف الأول إلا ترسيخ حكمه، في حين الثاني يسعى إلى بناء علاقات الثقة مع الدولة المستضيفة. لكننا نعيش اليوم تياراً من الأكاذيب العالمية، كما يقول البروفسور جون ميرشايمر، مثل أكاذيب إستراتيجية أو ذات بُعد قومي، بهدف صناعة الأساطير حول الماضي والمستقبل.

جادل مكيافيلي أن أفضل موقف خارجي تتبنّاه الدولة هو أن تكون قويّة السلاح بما يكفي لردع أي هجوم مباغت، ولكن ليس بقوة كافية لإثارة هجوم استباقي. وكان يعتقد أن الديبلوماسية تظلّ مهمّة للسفير الذي يرغب في «القيام بأشياء عظيمة» حتى بعد حصول دولته على جيوش كبيرة، لأن الحكمة تملي تجنّب الإفراط في التوسّع العسكري. وفي إطار ديبلوماسية الخداع يقول إن الرجال «لن يوفوا بوعودهم لك... فلستَ مُلزماً بالوفاء بوعودك لهم»، كما اقترح في برقية: «لا تُحافظ على التحالفات بين الأمراء إلا بالسلاح، بقدر ما يكفي لفرض الالتزام بها».

يقول مكيافيلي في نصيحته لرفائيلو: «وإذا كنت في بعض الأحيان بحاجة إلى إخفاء حقيقة ما بالكلمات، فافعل ذلك بطريقة لا تصبح معروفة، أو إذا أصبحت معروفة، بحيث يكون لديك دفاع جاهز وسريع». لكن، مثلاً، خلال أشهر طويلة من الحروب في المنطقة، استخدمت إستراتيجية الكذب بأعلى مستوياتها، لتبرير كثير من الجرائم، وطمس كثير من الحقائق. كما يقول مكيافيلي، إن «الدول القوية التي تكنّ احترامًا معينًا للمعاهدات ولبعضها البعض» وترغب في شنّ حرب على حليف تقليدي، ستحاول عادةً استفزازه ليقوم بالخطوة الأولى.

وظيفة السفير، كما وصفها مكيافيلي في نصيحته، تركّز على إجراء الاتصالات، والتوصّل إلى أحكام بناء على المعلومات المستمدّة، وإبلاغها بفعّالية إلى الحكومة. ويرى أنّ نجاح العمل الديبلوماسي يقوم على بناء العلاقات، وأكثر جهات الاتصال الديبلوماسية أهميةً هي صانع القرار والحاشية من مستشاريه يقول مكيافيلي: «أي عملٍ صعب، إذا حظي بموافقة الأمير، يُصبح سهلاً». لكن في عالم اليوم، فإنّ علاقة صنّاع القرار بالديبلوماسيين يشوبها الاضطراب والمنافسة غير المهنية، حتى وصفت الديبلوماسية في التيار الشعبوي بأنها استنزاف للموارد، وذات أهداف غامضة، ونجاحات ثانوية.

وإذا كان الهدف من التواصل الديبلوماسي للحصول على معلومات، والإجراءات التي هي قيد اتخاذ القرار أو التفاوض، وما يُحتمل حدوثه في المستقبل، يقترح مكيافيلي، بأن الطريقة لتحقيق ذلك هي وضع فرضيات مبنيّة على الاتصالات، واختبار تلك الفرضيات بناء على المزيد من أعمال التواصل. وبالتالي، نرى ما يعرف في عالم اليوم بالديبلوماسية الاستخبارية.

ليس من عادات الديبلوماسيين تقديم معلومات بلا مقابل، لذلك يحثّ مكيافيلي السفير الشاب على ضمان تزويده من قِبل مسؤولي الداخل بأكبر قدر ممكن من المعلومات الأساسية عن الأحداث في فلورنسا والعواصم الأخرى، لأنه كما يقول: «المدينة التي ترغب في تكريم سفيرها لا تجد أفضل من تزويده بتقارير وفيرة، لأن الرجال الذين يرون أنهم يستطيعون الحصول على شيءٍ ما، يتوقون إلى إخباره بما يعرفونه». أمّا في عالم اليوم، ففصل الداخل عن الخارج في السياسة الخارجية بات مهمّة شبه مستحيلة.

يقدّم مكيافيلي نصائح حول كيفية صياغة أحكام السفارة في تقارير فردية، موضحاً أنه في ظل ظروف مُلتبسة، قد يبدو من الخطأ أن يقدّم السفير تنبؤاً صريحاً بما قد يحدث، في إشارة ذكية بدلاً من ذلك، يحثّ مكيافيلي رافائيلو على إخفاء أحكامه على أنها «آراء مُراقبين محليين مُتأمّلين». والآن كما في أيام مكيافيلي، يجب على السفراء مواجهة ظاهرة النفاق الذي غالباً ما يتوازى مع التواصل الديبلوماسي المخادع، كما حينما استخدمت النازية الديبلوماسية لخداع العالم بشأن نوايا غزو دول أخرى منتهكة معاهدة فرساي.

كما أدرك مكيافيلي الفجوة بين التصوّر والواقع في الديبلوماسية، مجادلاً بأنّ الصورة العامّة لا تقلّ أهمّية عن السلوك الفعلي. ولاحظ أن «الناس عموماً يحكمون بالعين أكثر من الأيدي»، مسلطاً الضوء على أهمية المسرح السياسي والرمزية في الديبلوماسية العامّة. وأما رؤية مكيافيلي القائلة إن الكرم الموظّف إستراتيجياً يمكن أن يصنع علاقات تبعيّة تخدم مصالح المانح، فإن الدول ليست جمعيات خيرية. وبالمقابل، يقوم النظام الدولي بفلترة المبادئ الإنسانية وفق سياقاته عبر حسابات إستراتيجية تتعلّق بالتكلفة والمخاطر، وربما هذا التناقض في ما يعرف بالقانون الدولي لا يشكل مفاجأة لمكيافيلي، الذي يدرك أن الدول تتصرّف وفقاً للمصالح لا المبادئ.

رغم كل ما قدّمه أعلاه، لا يستحق مكيافيلي التهمة التي وجهها إليه السير هارولد نيكلسون بإفساد فنّ الديبلوماسية، ولو عاش في وقتنا المعاصر لرأى الديبلوماسية تعيش عصر التقهقر. قد تُحقق الديبلوماسية بلا ضمير أو ديبلوماسية الخداع نتائج قصيرة الأجل، لكنها عادةً ما تفشل على المدى البعيد.

* ديبلوماسي عراقي، باحث في العلاقات الدولية

صحيفة الاخبار 

عن الكاتب

د.ياسر عبد الحسين

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

ياسر عبد الحسين