د. ياسر عبد الحسين
إنّ روح المكان والحضارة وذائقة المدن ترسم معالم مختلفة للوساطات وإدارة الأزمات. والوساطة عملية صراع ضد نفسك حتى تقبل باختلاف الآخر، تعترف بمشروعيته، وتباشر مغامرة يمكن أن تبدّل نظرتك إليه، والأهم نظرتك إلى نفسك. وفيها، ثم، اعتماد على مبدأ التسوية أساساً في المجتمعات غير المتجانسة.
تنجح المدن في صناعة مناخ تفاوضي فعّال عبر توفير بيئة داعمة تجمع بين القدرة السياسية والديبلوماسية والبنية التحتية، والديبلوماسية النشطة، فضلاً عن الحاجة إلى بيئة آمنة للمفاوضات السرّية، ما يشجّع الأطراف على الحوار بلا ضغوط خارجية. وكذلك توافر الخبرة الديبلوماسية، والتاريخية، وفرق الدعم اللوجستي.
وتساعد صناعة الأجواء الهادئة، كتنظيم فعاليات ثقافية أو جلسات غير رسمية مثل عشاء ديبلوماسي، على بناء الثقة بين الأطراف. وكذلك حال تحديد قواعد صارمة للتغطية الإعلامية لحماية سرّية المفاوضات، من أجل ضمان بيئة خالية من الضغوط الخارجية، سواء من جماعات ضغط أو احتجاجات.
مسقط
بحثاً عن فهم «جغرافيا التفاوض»، وخصوصاً المدن الكوزموبوليتية التي تشتهر بحرفة الوساطة والتفاوض، تحدّث لي صديق ديبلوماسي عماني عن أنّ تحدّي شحّ المياه في البلاد أسهم في صناعة الشخصية الديبلوماسية العمانية في عالم الوساطة، وذلك عبر نظام الأفلاج (وهي القناة المائية تحت الأرض) القائم على فلسفة ضرورة أن تنتصر جميع الأطراف المتفاوضة بدلاً من انتصار طرف على آخر، عبر إيجاد حل يناسب الجميع.
ظهرت جذور الفكرة اجتماعياً قبل 2500 عام، لتحوّل التحدّي إلى معامل للاستقرار، عبر توظيف المياه الجوفية، حيث يختار شيخ القبيلة وكيلاً للفلج لتقسيم الموارد والملكية، ويقوم بتوزيع الحصص المائية على الأراضي بشكل مناسب، فتتحوّل مادة الصراع إلى السلام. وتبدو لهذه الفكرة القديمة جذورها في تعامل الديبلوماسية العمانية اليوم مع الجوار والمنطقة وخصوصاً في مفاوضات إيران مع الغرب التي كانت مسقط رائدة فيها.
جنيف
لا أعلم كم هي نسبة الحيادية في مدن أوروبا المشهورة في التفاوض والوساطة، رغم وجود لوبيات كبيرة ومفاعيل معارضة. وربما تجعل سياسة الحياد مدينة مثل جنيف موثوقة للأطراف المتفاوضة، وكذلك تَوفُّرُ البنى التحتية الديبلوماسية مثل مقرّ الأمم المتحدة، ومنظمة التجارة العالمية، وكذلك مساحة كبيرة من مراكز البحث المتخصصة في صنع السلام والوساطة مثل «مركز الحوار الإنساني» (HD) أو «مركز جنيف للسياسة الأمنية» (GCSP). وقد أضفت عليها طبيعتُها الخلابة رونقاً. سابقاً، كانت المفاوضات بشأن سوريا فيها. وكذلك جولات عدّة من المحادثات حول اليمن. كما وُقّع فيها على وقف إطلاق النار في ليبيا.
فيينا
كان لموقع فيينا مركزية في أوروبا، تسهّل وصول الوفود الديبلوماسية. إلا أن بعض المدن تعاني حالياً من وطأة التغيّرات الجيوسياسية في النظام العالمي، وبالتالي إنّ إعادة الإرث القديم غير ممكن عبر الموازين ذاتها وفي مشهد عالمي يتغيّر.
بروكسل
كانت بيئة بروكسل، المتعدّدة اللغات والثقافات، وحيث مركز الاتحاد الأوروبي، تدعم المفاوضات التجارية والاقتصادية، ووفّرت المرافقُ الحديثة وشبكة المواصلات المتطورة مساحةً لدعم الوساطات والمفاوضات.
مدريد
حينما استضاف القصر الملكي في مدريد «مؤتمر السلام»، حيث اجتمعت، لأول مرة، وفود من دول الشرق الأوسط، كان الأمر بمثابة قبول بدور إسباني في الديبلوماسية الدولية بعد غياب على مدار عقود الديكتاتورية (جاء هذا الحدث التاريخي مع جراح الانتفاضة الفلسطينية الأولى ضد الاحتلال الإسرائيلي، في ذروة تفكّك الاتحاد السوفياتي، ولكن مدريد فتحت الباب، بعد ذلك، فعُقدت تسع جولات من المحادثات في واشنطن، رغم عدم إحراز تقدّم كبير، فكان مؤتمر مدريد بمثابة مرحلة انتقالية بين مفاوضات «المسار الثاني» التي انطلقت بشكل غير رسمي، وما أصبح لاحقاً اتفاقيات أوسلو).
أوسلو
جعلت سمعة التاريخ الطويل في تسوية النزاعات، والبيئة الهادئة والمستقلة، لأوسلو النرويجية، مكانة بارزة بما تتمتع به من شبكة علاقات قوية مع الدول والمنظمات. وأظهرت اتفاقية أوسلو، بغض النظر عن القراءة لها والموقف منها، أنّ المدن غير الكبرى يمكن أن تلعب دوراً حاسماً في الديبلوماسية إذا توافرت عوامل الحياد والتنظيم.
إسطنبول
للبعد الجغرافي نصيب في إسطنبول، كون المكان تقاطع بين أوروبا وآسيا، ما يسهّل الوصول، وكذلك النشاط والمتابعة كوسيط نشيط في النزاعات (أخيراً في الأزمة الروسية-الأوكرانية).
آستانا
عُدّت آستانا، عاصمة كازاخستان، محايدةً ومرنة، ما جعلها مناسبة لإجراء المفاوضات السورية، بمبادرة روسية مدعومة من تركيا وإيران، لتقديم مقاربة جديدة تتجاوز الإطار الأممي التقليدي في الموضوع السوري لأكثر من 22 جولة.
الدوحة
ميزة الدوحة النسبية في الوساطة هي قدرتها على التوسّط في المفاوضات غير المباشرة واتصالات القنوات الخلفية بين أعداء لدودين، وعلى تحقيق التوازن في العلاقات بين مجموعة من الخصوم الذين تجمعهم عداوة متبادلة. العودة إلى سياسة الديبلوماسية الهادئة في الغرف المغلقة تعزز رصيد قطر باعتبارها محاورة فعّالة بين أطراف متنازعة يصعب عليها المشاركة في حوار مباشر.
ولعل من أبرز سمات النهج القطري في الوساطة هو الحرص على السرّية والكتمان في المحادثات، ومراعاة الحساسية الثقافية، أو لنقل فهم الخصوصيات الثقافية وخصوصاً في التعامل مع أطرافٍ متنازعين في العالمَين العربي والإسلامي. وقد رسمت صورة للدوحة بوصفها مركزاً ديبلوماسياً ووسيطاً صريحاً، ذا مصلحة حقيقية في إطفاء حرائق إقليمية، وذا خبرة لا يستهان بها، حتى إن المادة السابعة من دستور قطر أكدت الوساطة.
بغداد
ولبغداد الحضارة نصيب في ذلك، فقد استضافت خمس جولات من محادثات طهران والرياض. ويشير اهتمام العراق بتشجيع ذوبان الجليد بين واشنطن وطهران إلى أن هذه القضية مرتبطة أيضاً بالتقدّم الذي أُحرز في بغداد بشأن مسألة محادثات طهران والرياض. فقد كانت بغداد في السابق محطة تفاوض بين إيران والولايات المتحدة في محادثات ثنائية تتعلّق بالعراق، وما كان لمحادثات بكين أن تنجح في النهاية لولا دور بغداد في ذلك.
خاتمة
فيما قد نشهد دوراً للذكاء الاصطناعي في صناعة منصات مثالية للتفاوض الديبلوماسي، نحن بحاجة ماسة إلى دراسة العلاقة بين المكان الجغرافي وعملية التفاوض، أو إلى نقل تأثير الموقع الجغرافي على مسار المفاوضات والوساطات، سواء أكان مكاناً فيزيائياً، مثل المدن، أم افتراضياً في عالم الديبلوماسية الحديثة، لصناعة مدن وبيئات خاصة بالتفاوض وحل النزاعات.
* ديبلوماسي عراقي، باحث في العلاقات الدولية
صحيفة الاخبار