وإن اختلفت الصيغ العامّة لإستراتيجيات التفاوض، يبقى الجوهر هو البحث عن الحلول الوسط لإنهاء الصراعات أو للوصول إلى مكاسب معيّنة، لهذا بات تقييم صنّاع القرار على المحك عبر مفاوضيهم، أو دور جهازهم التفاوضي خلف الأبواب المغلقة. وحين نتحدّث عن المفاوض الإيراني، فإنه يمثّل مدرسة مختلفة وخاصة، هكذا حدّثني أحد الديبلوماسيين العراقيين عن المفاوض الإيراني الذي لا يكلّ ولا يتعب في حواره، وفي نفسه الطويل، في سبيل تحقيق النتائج والأهداف. وربما هذا ما شاهدته بعيني في المفاوضات الإيرانية مع مجموعة الخمسة زائداً واحداً التي جرت إحدى جولاتها في بغداد.
ويبدو أنه حصيلة تراكمية، بل على ما يبدو إنه نجاح الشخصية الإيرانية الممزوجة بين الثقافة الإسلامية وبين الأبعاد الحضارية لإيران. المقياس الصعب في عالم التفاوض هو المتعلّق بتعبير ونستون تشرتشل: «لا يمكنك التفاوض مع النمر عندما يكون رأسك في فمه». ويبدو في المفاوضات الحالية في سلطنة عمان ذلك: الأنياب المعارضة للتفاوض تحاول تجسيد رفضها بقوة في ظل المفاوضات بلغة التجار؛ لأنها بين تاجر العقار ستيفن ويتكوف، وابن تاجر السجاد عباس عراقجي الذي يبدو أنه يفهم هذه اللغة أيضاً.
قرأت أخيراً كتاب وزير الخارجية الإيراني الحالي والمفاوض الدكتور عباس عراقجي (قوة التفاوض: مبادئ وقواعد المفاوضات السياسية والديبلوماسية) الصادر عن «دار هاشم» في بيروت، والذي يرى تعريفاً جديداً للتفاوض: أنه في الواقع ساحة حرب، واجتيازه أشبه ما يكون باجتياز حقل ألغام محفوف بالمخاطر والتوترات، إذ يؤدّي أدنى سهو إلى الدمار، ولهذا يستلزم الوجود في هذا الميدان ساعات وساعات من الاستعداد والتأهّب المسبق.
يتحدّث الكتاب عن أنواع التفاوض، ولكنه يشير إلى صعوبة المفاوضات غير المباشرة التي يختارها أحد الأطراف، حينما تكون الكلفة باهظة على المستويين المادي وغير المادي للتعامل بين الطرفين. وقد لا يرغبون في التفاوض بشكل مباشر لأسباب يصفها عراقجي بالخلاف الهوياتي والمعرفي، تجعل من الصعب الوصول إلى اتفاق، وعادة تكون بطيئة، ويتخللها الكثير من التعقيدات وسوء الفهم، ولكنها تصبح أحياناً أمراً لا بد منه، وخياراً أفضل من عدم التفاوض.
وهناك في المفاوضات غير المباشرة لاعب وسيط دوماً، شرط أن تثق الأطراف المفاوضة به وبحسن نيته. ويبادر الوسيط إلى نقل الرسائل بين الأطراف المتفاوضة ويسعى في الوقت نفسه إلى تقريب وجهات النظر. وهو يرى أن سلطنة عمان كانت قد نجحت في توفير الأرضية المناسبة للمفاوضات المباشرة بين واشنطن وطهران سابقاً. ويقول إنه في أول اجتماع عقد مع الجانب الأميركي، طلب رئيس الوفد الأميركي آنذاك ويليام بيرنز من الوفد العماني مغادرة الجلسة بعد مباحثات تمهيدية خلال جلسة ثلاثية.
واليوم يتكرر الأمر في المفاوضات غير المباشرة 2025: لا يجلس الأطراف في غرفة واحدة، بل تجري المفاوضات بينهم عبر طرف ثالث، في غرفتين منفصلتين في مكان واحد، وسبق ذلك بمفاوضات غير مباشرة مثل مفاوضات القرار 598 الخاص بوقف إطلاق النار في الحرب العراقية الإيرانية. ويبدو أن الوزير الإيراني يفضّل التفاوض المباشر لأنه يرى أن الديبلوماسية المكتوبة كانت صعبة حقاً وبحاجة إلى طاقة مضاعفة ووقت كثير. ويقول إنه، ولهذا السبب، لم يكن ممكناً في مفاوضات فيينا تبادل أكثر من مكاتبة يومياً في أفضل الحالات.
وحين يضع عدداً من العوامل التي مكّنت المفاوض الإيراني من تحقيق الاتفاق السابق، يضع عاملاً عادة لا تضعه الدول في حساباتها والذي سمّاه بالإيمان والجوهر الإيماني المبني على الفكرة ذات الدوافع العقائدية والوطنية.
في لغة الجسد، يميل عراقجي إلى اتباع أسلوب «بوكر فيس» (poker face) أكثر من الديبلوماسية الضاحكة لسلفه جواد ظريف. وفي المفاوضات بين ويليام برنز، أوّل رئيس وفد مفاوضات أميركي حول هذا الموضوع، فقد قال إن تخصيب اليورانيوم ليس له مبرر اقتصادي لإيران، فأجابه عراقجي: هل كان لذهاب رواد الفضاء الأميركيين إلى القمر مبرر اقتصادي لواشنطن؟ المليارات من الدولارات التي أنفقت على برامج أبولو للذهاب إلى القمر، ما عائدها الاقتصادي على أميركا؟ فقال له المفاوض الأميركي: لم يكن لها مبرر اقتصادي، ولكن كان لها جانب اعتباري وهيبة مقابل الروس الذين أرسلوا أول إنسان إلى الفضاء.
فقال له عراقجي: هذا الكلام يصدق تماماً على البرنامج النووي الإيراني. أمّا حول التهديد الذي يرافق التفاوض، فإن عراقجي يرى أن التهديد كامن في طبيعة المفاوضات السياسية، لأن الأطراف اختارت التفاوض بديلاً من الطرق الخطيرة جداً. لذا، حينما تعجز المفاوضات عن ضمان مصالحهم في صفقة معقولة، يظل خيار اللجوء إلى مسارات غير تفاوضية قائماً، للبحث عن أوراق ضغط لكسب المزيد من الامتيازات، أو لمنع تقليل التنازلات. لكن إذا قدّم أحد الأطراف التهديد فإنه يجب التنفيذ مثل سيف الساموراي أو الخنجر اليمني، على حد وصفه.
يوصف أسلوب تفاوض الإيرانيين بأسلوب مساومة البازار، كما يرويها عراقجي نفسه، يقول: إن واحدة من الذكريات الجميلة التي أتذكرها عن أيام طفولتي هي المساومة الماهرة التي كانت تقوم بها والدتي أثناء الشراء، إذ كانت تساوم باستمرار وصبر، أتذكر ذات مرة عندما كنت في السابعة أو الثامنة من عمري، سألت والدتي أياً كان السعر الذي يقوله صاحب المتجر فأنت تقترحين قيمة أقل، ولكن إذا كانت قيمة سلعة ما ريالاً واحداً، ماذا سوف يكون جوابك عندها؟ قالت أمي: أقول له أعطني سلعتين بريال واحد. عندها، ومن وجهة نظري الطفولية، صدمتني هذه المهارة في المساومة!
* ديبلوماسي عراقي، باحث في العلاقات الدولية
صحيفة الاخبار