عرض : الدكتور علي بشار أغوان
شكل كتاب الدكتور ياسر عبد الحسين الموسوم « منطقة الفراغ في العلاقات الدولية « الرهان الأمريكي الروسي في عالم متغير ، الصادر عن مركز بلادي للدراسات والأبحاث الاستراتيجية ، أطروحة فكرية دولية جديدة في ثناياها ومضامينها برؤى عراقية شابة يحاكي فيها الكاتب الطريقة الأمريكية في تقديم المعلومة للمتلقي من خلال امتحان الفرضيات العلمية المعتمدة على الحث الفكري للنظريات التي سادت في العلاقات الدولية في مراحل مختلفة وتحديثاتها، ذلك عبر أسلوب السهل الممتنع والذي يستهدف التحديد المباشر للإشكالية من ثم قياسها عبر الاختبار. وقد استطاع الدكتور ياسر عبد الحسين ان يقدم من خلال تفاصيل ومحاور كتابه إشباعًا فكريًا أكاديميًا (نظريًا وعمليًا) وافيًا، فضلا عن توفير أرضية خصبة لإعادة هندسة دراسة العلاقات الدولية بمفاعيلها المتشعبة من منطلقات منهجية لا تقليدية وبما يعزز الشبق البحثي والفكري في هذا التخصص. بالمحصلة العامة يكاد يكون هذا الكتاب بمثابة الانتقالة الموضوعية والميكانيكية والتي يمكن ان تُدرس من خلالها الظواهر في العلاقات الدولية (ببعدها التطبيقي والنظري) بأسلوب حداثوي يحاكي به الطريقة المعاصرة في الكتابة في عالم اليوم الذي اقل ما يمكن القول عنه انه متسارع سواء على مستوى الفواعل أو مستوى النظام العالمي نفسه.
هل نحتاج إلى نظرية في العلاقات الدولية ؟
احتوى الكتاب فضلا عن مقدمته التي تناولت تفاصيل متعددة وأسئلة تتعلق بالنظرية السياسية وشكل كينونة النظام العالمي ومفاعيله، على ستة عشر محورا رئيسا يناقش بها الكاتب في محطات متنوعة وموضوعات منهجية وتطبيقية جاء أهمها السؤال الذي يقول هل نحتاج إلى نظرية في العلاقات الدولية ؟، إذ يجيب الكاتب على هذا السؤال بسؤال اكثر عمقًا وحاجًة للإجابة يقول ما فائدة علم السياسة إذ لم يستشرف لنا المستقبل ويوضح لنا صوره ؟ من ثم ينطلق لتوضيح وتشخيص مكامن الخلل الموجودة داخل علم العلاقات الدولية إذ حددها بثلاثة عناصر رئيسة
أولها العلاقات الدولية نفسها بتسارعها وتغيرها غير المنضبط والخلل الثاني الموجود في مناهج دراسة هذا التخصص والتي لم تعد تصلح دائما لامتحان الفروض النظرية على الوقائع التطبيقية، ثم حدد الخلل الثالث وعزاه إلى المشكلة المعقدة في آلية صنع القرار داخل مؤسسات الدول من ثم ترجمته على أسس فعل سياسي خارجي لها. ثم ينتقل الكاتب لنقاش جدليات وموضوعات متعددة في نفس المحور تتعلق بالنظام الدولي واختلافات تسمياته التي تطلق عليه، وقد طرح أسئلة متعددة كان أهمها: هل هو نظام دولي أم عالمي وهل هو نظام قديم أم جديد ؟.
دورة حياة العلاقات الدولية
شمل المحور الثاني من كتاب الدكتور ياسر عبد الحسين موضوعة دورة حياة العلاقات الدولية ، وقد قسمها بناء على أساس رؤية منهجية إلى مجموعة من المراحل بدأت بمرحلة أولى اسماها بمرحلة الفوضى والتي سادت قبل معاهدة ويستفاليا 1648 ثم بدأت المرحلة الثانية منذ ويستفاليا حتى مؤتمر فينا 1815 حينما تم عبور السلطة الدينية للدولة وبدأت القومية تترسخ بعد تجربة طويلة، من ثم بدأت بعد ذلك مرحلة ثالثة امتدت منذ مؤتمر فينا حتى الحرب العالمية الأولى 1914 والتي كانت بعنوان تعميق النقاش حول إعادة صياغة توازن القوى من ثم انتهت هذه المرحلة لتبدأ بعد ذلك المرحلة الرابعة مع انتهاء الحرب العالمية الأولى 1919 بتطوير أنموذج الأمن الجماعي بشكل كبير. وقد بدأت المرحلة الخامسة بحسب توصيف الدكتور ياسر عبد الحسين مع انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 وتأسيس الأمم المتحدة حتى تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1989. وقد بدأت المرحلة السادسة مع بداية ما اصطلح عليه بالتفرد أو الهيمنة منذ عام 1991 حتى أحداث 11/ أيلول 2001 لتبدأ بعد ذلك مرحلة أخرى سابعة أسماها الكاتب مرحلة الحرب على الإرهاب بعد أحداث 11 أيلول 2001 والتي امتدت حتى بداية المرحلة الثامنة التي وصفها الكاتب أنها بدأت بعد عام 2014 وصعود الجماعات الإرهابية المسلحة ووصولها إلى مرحلة تأسيس الدول بشكل علني في مختلف المساحات الجغرافية.
التصدع وانهيار النظرية
ناقش المؤلف في بداية هذا المحور نظرية الاحتواء للدبلوماسي الأميركي جورج كينان والتي تم تطبيقها حيال الاتحاد السوفيتي من ثم تبنيها من قبل الدبلوماسي الأميركي وسفير الولايات المتحدة في إسرائيل مارتن اندك وتطويرها ثم تطبيقها ضد إيران بعد أحداث 11/ أيلول 2001 وما تمخض عنه لاحقًا باتفاق عام 2015 كنتيجة لتطبيق نظرية الاحتواء الإقليمي لإيران عبر الحد من طموحاتها عبر الدبلوماسية وليس العمل العسكري المباشر. بعد ذلك قدم المؤلف خارطة موسعة لأهم النظريات التي دخلت مجال التطبيق في العلاقات الدولية بعد الانهيار الكبير للمسرح الجيوسياسي العالمي عام 1989 وما ظهر بعد ذلك من أفكار أيديولوجية ذكر منها المؤلف نظرية نهاية التاريخ وبناء الدولة لفرنسيس فوكوياما وانتصار الرأسمالية والليبرالية والديمقراطية النهائي من ثم تعرض لأهم المراجعات التي أجراها هذا المفكر على أفكاره لينتقل عبد الحسين بعد ذلك ليناقش نظرية صدام الحضارات واهم الأفكار التطبيقية التي وردت فيها وتمت ترجمتها في مسرح العلاقات الدولية كما ذهب الدكتور ياسر عبد الحسين وأسهب في مناقشة رؤى وبصمات المفكر الاستراتيجي الأميركي زبيغينيو بريجنسكي في العلاقات الدولية والتي ناقش من خلالها وضع الولايات المتحدة العالمي عبر كتابه الموسوم رؤية استراتيجية، من ثم ينتقل الكاتب لنقاش أهم الأفكار التي قدمها الهندي - الأميركي بارج خان في كتابه العالم الثاني والذي جادل فيه قضايا عدة تتعلق بالتحولات النظمية والبنيوية في هيكلية النظام الدولي.
نظام متعدد وحراس مترددون
يقول المؤلف في مطلع تأسيسه البحثي لهذا المحور، ان الجدال لا يزال قائما حول ماهية القوة ومفهومها وتطبيقاتها في صياغة علاقات الولايات المتحدة مع العالم والتي انقسمت بدورها إلى مدارس متعددة أهمها المدرسة الداعية للعودة الى الداخل والانعزال ومدرسة الانفتاح العالمي المسؤول والذي اجبر الكاتب على الدخول في تفسير النظريات المهيمنة على السياسة الأميركية الحالية وهي الواقعية من ثم المثالية (الليبرالية) ويقدم أهم فروض هذه النظريات ونتائج امتحانها في المجال التطبيقي الدولي ، لينتقل بعد ذلك لتقسيم مناهج دراسة العلاقات الدولية اليوم اذ صنفها في اتجاهين اثنين أهمها الاتجاه أو المنهج التقليدي الذي احتوى على المناهج الفرعية (القانونية والتاريخية والمثالية والواقعية والسلوكية ومنهج تحليل في إطار سياسات القوى الكبرى) وانتقل الدكتور ياسر عبد الحسين لتحديد المناهج المعاصرة والتي ضمت بحسب تصنيفه لها إلى (منهج تحليل النظام السياسي الدولي ومنهج التوازن الدولي ومنهج اتاذ القرار ومنهج المباريات). وقد كانت عملية عرض هذه المناهج بمثابة التمهيد لامتحان النظريات واهم فروضها وتقديم حولها ملاحظات عامة كالنظرية البنائية والنظرية الوظيفية وناقش أفكار مدرسة ما بعد الحداثة في تفسير النسق الدولي الذي يمر في مراحل متعددة أهمها الفوضوية الحالية.
نظام عالمي بلا قيادة
في ظل فوضوية النظام العالمي وانفلات النظم الإقليمية وعجز النظريات عن تقديم تفسيرات تتفق فيها المدخلات مع المخرجات ، يناقش المؤلف موضوع القيادة على مستوى العالم والتي أصبحت اكثر سيولة وميوعة من أي وقت مضى في ظل بروز الفرد الرقمي كمعطى جديد من معطيات الفواعل فوق القومية ، كما يعرض الدكتور الكاتب في هذا المحور فكرة القوة وتشتتها من قبضة الدولة القومية الى فواعل جدد عابرين للقومية أضافوا تعقيدا اكبر على طبيعة العلاقات الدولية وتحليل النظام العالمي وقد برر المؤلف ذلك وعززه برؤى الكاتب ايان بريمر والتي قدمها بكتابه عالم بلا قيادة بأن المخاطر المحدقة بالعالم لن تكون باستطاعة دولة واحدة مواجهتها وهذا ما يوضح بشكل عميق موضوع تشتت القوة وتوزعها تحالفات أو تآلفات وتكتلات اقتصادية وعسكرية كبرى في ظل نظام العولمة الذي شكل الفراغ في القيادة المفردة.
القوى الكبرى و G – Zero
يحدد الدكتور ياسر عبد الحسين في بداية هذا المحور القوى الكبرى ويقول إنها تضم الولايات المتحدة والصين وروسيا واليابان والاتحاد الأوربي ومجموعة دول بريكس ويبدأ بتحليل التناقضات الموجودة بين هذه القوى من منطلقات التنافس والتعاون والصراع يتحدث عن مساحات في النظام الدولي تلتقي بها ومساحات أخرى تتباعد حولها الرؤى والرغبات. يتحول المؤلف في جزء آخر من هذا المحور للنقاش موضوع القوى الأخرى كألمانيا المتحولة شيئًا فشيئا من نمط الجيوبلتيك الإقليمي الى النمط الجيوبلتيك العالمي المؤثر من ثم يفتح الدكتور ياسر عبد الحسين النقاش عن موقع بريطانيا التي كانت عظمى في السابق ممهدً النقاش دور بريطانيا الجديد في ظل الوضع الفوضوي ، لينتقل بعد ذلك الكاتب لفهم الدور الفرنسي في النظام الدولي وضعفها السياسي في مرحلة حكم هولاند، ينتقل المؤلف للحديث كبداية مركزة عن الصين ويدرس دبلوماسيتها الأمنية من خلال ما أسماه بالشراكات الثنائية والتكتلات وكل ذلك كما يرجعه عبد الحسين بسبب ما حققته الصين خلال الثلاثين عاما الماضية من منجزات تتعلق بـ سرعة النمو الاقتصادي والتطوير الفلسفي الذي أصاب النظام نفسه والتحول من الاشتراكية المباشرة إلى اقتصاد السوق المتدرج وتجذير ثقافة الإصلاح في المجتمع الصيني على مختلف القطاعات ليقدم أخير ًاستراتيجية الحمامة الصينية التي حدد من خلالها كيف تنظر الصين للعالم. يتحول الكاتب للحديث عن الاتحاد الأوربي وعن وحدته الاقتصادية الكبيرة والتي حققها لكن تبقى المشاكل موجودة داخل الاتحاد، أهمها عدم وجود سياسة خارجية موحدة يمكن اعتمادها في السياسة الدولية تعبر عن وجهة نظر الأعضاء كذلك تبقى الرؤية الأوربية رهينة الى حد ما بالسياسات الأميركية في العالم وهنا يبحث المؤلف موضوع الاستقلالية في السياسة الخارجية الأوربية. ينتقل الكاتب للحديث عن اليابان ويتحدث عن سياستها الخارجية في ظل عالم مضطرب ودبلوماسية يابانية تعتمد بشكل رئيس على تعزيز تحالفها مع الولايات المتحدة وتعميق تعاونها مع دول الجوار والمحيط الحيوي فضلا عن تعزيز الدبلوماسية الاقتصادية كوسيلة لتعزيز الاقتصاد الياباني. وقد تطرق الدكتور ياسر عبد الحسين إلى الدور الروسي في أطار تكتل بريكس الاقتصادي وتحدث عن تعاونات كبيرة قد تتطور لاحقًا إلى تحالفات أعمق مع الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا والصين. ينتقل المؤلف أخيرا للحديث عن الاستراتيجيات في مرحلة الحرب الباردة وما عدها ويدرس أهم التحولات التي طرأت عليها والتي تتضمن العامل العسكري والاقتصادي ومن ثم الاقتصادي (النفطي – الغازي).
الفاعلون من غير الدول والصدمة الموازية
ينطلق المؤلف في هذا المحور من رؤية تحليلية للنظام العالمي وفواعله من غير الدول ويعرض لأهم الاتجاهات التي تدور حول النظرة الواقعية وتفسيراتها للمجتمع الدولي المنعدم والتدويل التي تنطلق من رؤية توزيع الأدوار على وفق المهام والعالمية التي ترى ان المجتمع الدولي هو مجتمع أخلاقي بالدرجة الأساس ويتحول سريعا المؤلف لبحث الأدوار غير التقليدية التي يمارسها هؤلاء الفاعلون في عصر الشبكات والعولمة كالأفراد الشبكيين والشركات متعددة الجنسيات والجماعات الإرهابية والمواطن الدبلوماسي ودبلوماسية المنظمات الإرهابية ودبلوماسية الفواعل من غير الدول والدبلوماسية الرقمية من ثم يمتحن هذه الفروض عبر دراسة الكيفية التي باتت تؤثر جل هذه المتغيرات على بنيوية النظام نفسه وتفاعلاته الكلية والفرعية.
أوهام العلاقات الدولية
يشرح المؤلف هنا أفكاره التي يصفها بأنها أوهام موجودة في مناهج دراسة وتطبيقات العلاقات الدولية، إذ يقول ان مبدأ المساواة واحترام السيادة هو مبدأ تعرض لاهتزازات كبيرة لا يتم العمل به في كافة المحافل والعلاقات ما بين الدول إلا في ظل المنظمات الدولية في بعض الأحيان. ويذكر ياسر عبد الحسين محورًا أخر من الأوهام ويقول عنها بضرورة أعادة تعريف الحروب وتصنيفها بعد بروز أطراف غير دولية تشكل تهديدات متعددة على الجميع، ويضيف المؤلف وهمًا ثالثًا من أوهام العلاقات الدولية وهي تحليلها عبر ما يسمى الدولة القومية أو الدولة الأمة التي باتت تفضي إلى نتائج تحليلية غير مرضية. ويتحدث الدكتور ياسر عبد الحسين عن موضوع تفكيك وتركيب الصورة في الرأي العام العالمي وكيف تتم تسويق بعض الأمور كالهند التي تسمى بلد للاعنف رغم أنها شنت ست حروب خارجية في حين أن الصين يتم تصويرها على أنها تهديدكبير ولم تدخل سوى حربين اثنين منذ عام 1949 ضد الهند وكوريا. لينتقل إلى وهم تفسير القوة عبر القوة ويتحول إلى النقطة السادسة حول ما أسماه بأكذوبة القانون الدولي من ثم الوهم السابع والمتعلق بضرورة إعادة قراءة وظائف الدولة التقليدية في ظل العولمة والوهم الثامن المتعلق بتفسير النظام الدولي على وفق أهواء الرأي العام ليختم بنقطة تاسعة بموضوع القطبية التخصصية التي يقدمها كبوابة لتفسير الهيكلية الدولية.
متغير الإرهاب في العلاقات الدولية
يدرس الدكتور ياسر عبد الحسين في هذا المحور ظاهرة الإرهاب ويبحث أثرها العالمي الذي بات واضحا للعيان ويستعرض أهم الاستراتيجيات التي يتم تطبيقها في مرحلة المكافحة العالمية له وأهم المتغيرات التي طرأت على البيئة الدولية نتيجة لتنامي هذا الخطر. فضلا عن تقديم الرؤية الأميركية حول الظاهرة وكيفية مواجهتها واحتوائها عبر ما قاله منظرو وصناع القرار الأميركي السابقون والحاليون كمادلين أولبرايت وأوباما وجوزيف ناي. كما قدم المؤلف الرؤى الروسية واستعرض الموقف العام لروسيا حول أهم المنطلقات الفكرية في التعامل مع هذه الحالة.
هل الحرب على داعش ضرورة أم اختيار (رؤية أميركية)
يقدم المؤلف في هذا المحور مجموعة من الحروب ويناقشها من حيث مبررات انعقادها وأسبابها الموجبة فلسفيًا واستراتيجيًا والدخول بها ويركز على الرؤية الأميركية في هذا الصدد، ويشرح الدكتور ياسر عبد الحسين أهم التيارات الفكرية المهيمنة على الاستراتيجية الأميركية ويحصرها بين جملة من المدارس ذات التفرعات المتعددة كالمدرسة الانغماسية والانكفائية والحيادية والانعزالية ودعاة الزعامة العالمية من ثم ينتقل لسحب تأثير جل هذه المدارس على استراتيجية اوباما التي حددها في مكافحة الإرهاب العالمي ويحدد في نهاية المحور أهم التكتيكات التي احتوتها الاستراتيجية الأميركية في حربها ضد تنظيم داعش الإرهابي ليختم بعد ذلك بالمعضلة التي أصابت الفعل الخارجي على أيجاد أرضية الحسم الملائمة للطموحات الأمريكية.
الرؤية الروسية في الحرب على الإرهاب
يشرح المؤلف في هذا المحور آليات روسيا في تعضيد مكانتها الدولية عبر التركيز في نشاطاتها على مناطق التوتر والأزمات في العالم. كما يستعرض الرؤى البوتينية لأهم الأولويات التي تضطلع روسيا بالعمل على معالجتها وتحقيقها وأهمها التأكيد على حفظ الأمن والسلم الدوليين والعمل على إقامة علاقات استراتيجية رصينة مع مختلف دول العالم بما يحفظ مصالح الجميع وتعضيد السياسات التي تتعلق بمواجهة الأزمة المالية العالمية كما تعمل روسيا على تقليل الهيمنة الأميركية وسيطرة القوى الأخرى على مصادر الطاقة العالمية. ينتقل بعد ذلك الدكتور ياسر عبد الحسين ليتحدث عن الاستراتيجية الروسية في الحرب على الإرهاب العالمي.
سوريا : الماكندرية الروسية
ينطلق المؤلف في هذا المحور من مقولة وزير الخارجية الروسي الأسبق اندريه كوزيف التي تقول (لقد أدركنا ان الجغرافية السياسية تحل محل الايدولوجيا) من ثم يحلل الدكتور ياسر عبد الحسين أهم مسوغات الاندفاع الروسي حيال سوريا من بوابة العودة من جديد إلى المياه الدافئة في الشرق الأوسط والتي تشكل ركيزة أساسية للعودة إلى المسرح الجيوسياسي العالمي عبر البوابة في سوريا والمناطق الأخرى في العالم ويتحدث عن كيفية تحول سوريا إلى نقطة اختبار تعددية في سياسة روسيا واليات صعودها من جديد نحو القطبية التعددية.
الغاز : أحجية الصراع الدولي والإقليمي
تحدث الدكتور ياسر عبد الحسين في هذا المحور عن مسارات الحروب المستقبلية والتي سيكسبها الطرف القادر على تأمين ممرات الطاقة العالمية (لاسيما الغاز) في الشرق الأوسط ومحيطه الحيوي، وكيف سيعاد تشكيل خارطة المصالح الإقليمية والدولية على وفق حسابات الغاز والمنافسة الروسية الاوروبية الأميركية على تشكيل خارطة الغازية الجيوسياسية وتأمينها عبر بلدان الشرق الأوسط واوكرانيا وشبه جزيرة القرم والتي تشكل الرقم الصعب في حسابات السياسة الدولية بعد اقرار اتفاقيات التقليل من الانبعاث الحراري والتي ستحول شكل الاستهلاك من النفط الى الغاز الأقل ضررًا بالطبيعة مفسرًا المؤلف ذلك ومحللا ان الصراعات القائمة في سورياوالعراق واوكرانيا هي صراعات لتثبيت اركان المستقبل الغازي لدول التنافس العالمي.
نظام ما بعد الدولة – الجديد
يتحدث المؤلف في هذا المحور عن استراتيجية القوة الذكية التي تبنتها الولايات المتحدة كعنصر تعويض لتراجع مكانة الولايات المتحدة الأميركية العالمية والقائمة على أساس تبني الحلول غير العسكرية وجعل التدخل المباشر بآلياته العسكرية آخر المطافات للحفاظ على المصالح القومية الأميركية، من ثم ينتقل المؤلف بعد ذلك ليبحث في محور عنوان كتابه الرئيس عبر مخطط وضعه من خلال رؤيته التحليلية الخاصة فيما يتعلق بتقسيم النظام العالمي إلى عدة فروع أهم ما جاء بها هو ما أسماه (بمنطقة الفراغ أو حالة الفراغ) التي يمر بها النظام الدولي كمرحلة من مراحل تطوره بالإضافة إلى مرحلة التعددية القطبية والأحادية القطبية والنظام المخطط واللاقطبية والفوضى العالمية. ينتقل الدكتور ياسر عبد الحسين بعد ذلك للحديث عن مقاربات الدولة ومفهومها وتصنيفاتها الرئيسة ويستعرض مختلف الرؤى والطروحات التي بدأت تتحدث عن تغيرات كبيرة حدثت في نظريات الأمن القومي الشامل وشكل وطبيعة أجيال الحروب والقتال المباشر بين جيوش نظامية، كما ركز الدكتور ياسر عبد الحسين على دراسة دور التنظيمات الإرهابية المسلحة في تغيير خارطة العقائد الأمنية واستراتيجيات التعامل معها ومنعكسات ذلك على النظام العالمي نفسه ومتبنياته وأولوياته في إدارة شؤونه.
ثورة التحالفات
في محور كتابه الأخير، يتعرض الدكتور ياسر عبد الحسين لموضوع فلسفة التحالفات ويبين مقتضيات البيئة الدولية الحالية الدافعة باتجاه تعزيز الجانب الايجابي لإرساء التعاون من خلال عقد التحالفات فيما بين الدول لينتقل ويشرح كيف ان التحالفات في بيئة سريعة التغيير والميوعة بدأت تظهر حتى على تلك الفواعل من غير الدول كالمنظمات والجماعات والأفراد ليعرض عبد الحسين بعد ذلك مراحل التحالفات الدولية الرئيسية والذي يحددها بمحورين أساسيين تتفرع منهما مراحل أخرى هي مرحلة النمو والاتساع ومرحل التدهور. من ثم يقدم أخير ًا دعوة لتهيئة أرضية رصينة لدراسة التحالفات التي انعقدت على أساس الحرب على تنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا من خلال دراسة الأبعاد النظرية في العلاقات الدولية للتحالفات وسحبها إلى الجانب التطبيقي.
محصلة ختامية:
يمكن القول ختامًا إن كتاب الدكتور ياسر عبد الحسين يمثل نقلة نوعية بارزة في حقل تختصص العلاقات الدولية ببعده التطبيقي والنظري لما قدمه من مفاهيم ومفردات فككت التدافعات الفكرية التي لطالما أرقت كبار الباحثين في مجال التخصص وأدخلتهم في دوامات التيه البحثي، وما شكله هذا الكتاب من محاولة جادة لتأسيس أرضية بحثية رصينة تكون نقطة انطلاق جديدة للباحثين الآخرين ولسبر غور هذا التخصص بأفكار ورؤى حداثوية، على هذا الأساس يمكن تسجيل جملة من الاستنتاجات الختامية حول الموضوع تتعلق بالاتي :
1. أصبح من الصعب دراسة العلاقات الدولية ببعدها التطبيقي العملي بناء على ما قدمته النظريات التقليدية لدراسة هذا التخصص، ذلك لما أصاب العالم من سرعة فائقة وقابلية كبيرة على التحرك في ظل رعونة المتغيرات وكثافتها .
2. تمكن الدكتور ياسر عبد الحسين من تقديم خارطة جيوسياسية للمسرح العالمي شرح فيها شكل ومعالم هذا النظام ومفاعيله وأطرافه التقليديين وفوق التقليديين من ثم أسس الدكتور ياسر عبد الحسين لأهم منطلقاته البحثية ورؤاه المستقبلية والتي قد يتخذها هذا النظام شك ًلا مستقبليًا و عنوانً اله.
3. عرض الدكتور ياسر عبد الحسين طبيعة التوجهات العامة للقوى الكبرى في النظام الدولي وشكل التفاعلات القائمة فضلا عن دراسة موضوعة التحديات التي تواجه كل قوة بتنوعاتها وبفعل دفق الفاعلين الجدد في العلاقات الدولية وما صاحب ذلك من تشتت قوي وتفرق عام للمفاهيم في هذا التخصص.
4. إن محاكمة وتحليل الوقائع والأحداث الدولية على وفق فكرة ان المدخلات ليس بالضرورة بعد الآن ان تتطابق مع المخرجات هي ثابتة نسبية بدأت تنتشر بشكل كبير لاسيما في عملية امتحان الفروض النظرية وقياسها عمليًا وهو ما أكد عليها الدكتور ياسر عبد الحسين من خلال سياق كتابه البحثي.
5. صار من الضروري للغاية إجراء ثورة منهجية بالغة الأهمية يعاد من خلالها صياغة النظريات التقليدية في تحليل وتفسير العلاقات الدولية بما يتفق مع حجم وشكل المتغيرات وتطور الفواعل وأشكالهم.
6. إن المناهج التقليدية أصبحت لا تفي بالغرض لتقديم بيانات يمكن اعتمادها في صياغة الأفعال الداخلية والخارجية من ثم تأسيس عليها استراتيجيات الدولة العليا، بل ان ثورة المناهج أصبحت ضرورة ملحة تغذي الشبق الفكري البحثي لدى كثير من المهتمين والمتخصصين في حقل العلاقات الدولية.
7. ان عملية الدمج ما بين التطبيقي والنظري التي قدمها الدكتور ياسر عبد الحسين في كتابه، تمثل إضافة قيمة للعمل البحثي التخصصي الذي يزاوج ما بين العلم المتجرد والواقع المبني على أساس المصالح والقيم والأيديولوجيات المتضاربة.