د. ياسر عبد الحسين
يقول مكيافيلي: «من الصحيح أننا نعتقد أن الحظ يتحكم في نصف أفعالنا، ولكنه يسمح لنا أن نحكم تقريباً نصفها». ولعل صاحب كتاب «الأمير» نجح في توصيف مركزية السياسة الخارجية أفضل من النظريات التي تصفها بأنها مجموعة من الأفعال والقرارات لتحقيق أقصى قدر ممكن من الأهداف في بيئة مقيدة. وانعكست مقولة ابن فلورنسا على الفكرة الواقعية لإدارة هذه المنظومة، لكن الخطورة تكمن في أن يضع صانع القرار قيوداً وهمية ويتبنّاها كمسلّمات على أنها ثوابت ومنهجيات لا يمكن الخروج عنها بأي حال، كجزء من صناعة الوهم، وعدم اليقين. فالوهم السياسي، كأي عمل خيالي آخر، يمكن أن يُمارس جاذبية، ولكن حيثما ينشأ في ذهن صانع القرار، يمكن أن يعيق الرؤية مثل الضباب في عدسة.
سأحاول هنا توصيف أبرز عشر مسلّمات وهمية في السياسة الخارجية:
(1) أتقارب ديبلوماسياً وأتقاطع سياسياً
إنّ الديبلوماسية غالباً ما تُقدَّم على أنها تابعة للسياسة، وكأنها تتلقّى أشبه ما يكون بمدخلات المواقف لإنتاج مخرجات من القيم والمواقف السياسية، ورغم ذلك فإنّ الديبلوماسية غالباً ما تنحرف عن المواقف السياسية، لكن السياسة والديبلوماسية تعملان كنظامين منفصلين يعتمدان على بعضهما البعض، ولكنهما في الوقت نفسه مستقلان. وكجزء من سياسة الوهم، هناك اشتباه بعدم التمييز بين بناء العلاقات الديبلوماسية والمواقف السياسية التي تتخذها الدول تجاه القضايا الدولية الثنائية والمتعددة، وخصوصاً في إطار الأزمات الإقليمية الدولية. فأن تكون لك علاقة جيدة مع دولة ما، ليس بالضرورة أن يحصل تطابق أو سلوك متشابه بين رأيك ورأي تلك الدولة تجاه أزمة أخرى، لكنكما متقاربان في العلاقات الثنائية. مثلاً: تختلف إيران وتركيا في موضوع سوريا، لكنهما تتقاربان في العلاقات الثنائية.
(2) ليس لي دخل، أنا أنأى بنفسي
يقول عالم السياسة ريتشارد سنايدر: «لفهم الأسباب، عليك أن تحلّل الكيفية». إنّ تقدّم مقولة النأي بالنفس في التراث الديبلوماسي الخيالي، يرتبط بالتآكل الواسع لمفهوم السيادة. عملت التغيرات في الاقتصاد العالمي، والتكنولوجيا، والسياسة الدولية، على تقويض سيادة الدولة بطرق عدة. وأمام هذا التحدّي تجب إعادة قراءة مفهوم النأي. فضلاً عن شبكة العولمة التي كبّلت الجميع بشراكة مترامية من الاتصال الدولي الوثيق؛ رغم أن هناك من يرى أن الدولة ذات السيادة لا تتعرض للتقويض بسبب ضغوط العولمة، بل بسبب تضاؤل الإحساس بالإمكانات السياسية. في المقابل، أولئك الذين ينكرون أهمية السيادة فشلوا في تقديم بدائل أفضل منها.
تبدو مسارات الصراع في الشرق الأوسط بالغة الكثافة والتعقيد، وتتسع دوائرها. وإن نأيك بنفسك لا يعني سوى أنك تنتظر أن تأتيك المصيبة لترى ما تفعل لاحقاً. والترابط الجيوسياسي للمنطقة يجعلها أقرب إلى بيت الخشب: إن شبّت نار في بيت شبّت في البيت الآخر.
(3) التقارب مع «س» تعني أن ابتعد عن «ص»
ثمة تصور سياقي بأن أي تقارب بين طرفين يعني بالضرورة ابتعاداً عن طرف ثالث، وهو منظور خاطئ ويحتاج إلى مراجعة، إذ قد تغفل المقومات التاريخية والاجتماعية المشتركة التي تجمع بين طرفين. مثلاً: يدعو الدكتور جمال حمدان إلى فكرة تحالف بين تركيا وإيران ومصر، أطلق عليه اسم «مثلّث القوّة الإقليمي»، عكس ما يراه أحمد داود أوغلو، في فكرة «المثلث الحساس»؛ أن أي تقارب مع دولتين داخل المثلث هو تنافر بالضرورة مع الثالثة - لكن واقعياً هذا ليس صحيحاً.
(4) السياسة الخارجية لا دخل لها بصندوق الاقتراع
يقول جورج كينان إن «إدارة السياسة الخارجية اليوم تعتمد على تمرين في الفهم، وهو أمر مذهل حقاً في أبعاده، فهم ليس فقط عقول عدد قليل من الملوك أو رؤساء الوزراء، بل فهم عقول وعواطف وضروريات شعوب بأكملها». نتيجة لاختفاء الحدود بين الخارجي والداخلي، فمن المتوقع أن يصبح لدى الناس آراء أقوى بشأن السياسة الخارجية أيضاً. لكن ليس بالضرورة أن تراعي مؤسسات السياسة الخارجية الرأي العام.
في كثير من الأحيان لا بد من النظر إلى المصالح من الزاوية الأساس لتلك الدول بدلاً من صناديق الاقتراع فقط، لكن بالنتيجة، وفي ظلّ تحوّل مفهوم المواطنة الديبلوماسية، قد يعاقب الجمهور على سياسات خارجية معينة لا ترتضيه. لذلك، صناعة القبول العام مهمة جداً. يقوّى البناء الداخلي عبر حوار مجتمعي ونقاش وطني في القضايا الإستراتيجية والديبلوماسية الحساسة، بمشاركة كل الأطراف في ملف السياسة الخارجية، وخصوصاً في ظل الأنظمة التي تعيش ديموقراطية توافقية وبالتالي تسلك سياسة خارجية توافقية.
(5) الاقتصاد هو المحرّك الوحيد للسياسة الخارجية
من الخطأ الاعتقاد بأن المصالح الاقتصادية هي الدافع الوحيد لتصرّفات الدول؛ قد تكون أحياناً العوامل الثقافية/الدينية، أو حتى الأمنية، أكثر أهمية في بعض الحالات، وخصوصاً في الشرق الأوسط. دعم بعض الدول قد ينبع من هوية مشتركة أكثر من مصالح اقتصادية.
(6) العقلانية في السياسة الخارجية تتطلّب التنازل
إن غالبية نظريات العلاقات الدولية تفترض أن الدولة كيان عقلاني. والعقلانية في العلاقات الدولية لها مفاهيم واسعة، ولكنها ارتبطت بأن الدولة تسعى، في سلوكها، إلى تعظيم المكاسب وتقليل المخاطر من أجل الحفاظ على بقائها، وهي ما يمكن أن نسمّيها العقلانية الهدفية. أمّا العقلانية الإستراتيجية، فهي ترتبط بعملية صنع القرار التي يجب أن ترتكز على نظرية موثوقة وأن تكون هناك مداولة بين أجهزة صنع القرار من أجل اختيار ما يحقق «العقلانية الهدفية».
إنّ العقلانية أمر لا غنى عنه في صناعة السياسة الخارجية، ولكن الإشكالية الكبرى هي التفسير الخاطئ لها. فهناك مَن يدعو إلى تقديم التنازلات بشأن مصالح دولة ما بحجة العقلانية، حتى أصبح هذا المفهوم مرادفاً لمفهوم سياسة الاسترضاء القائمة على فرضية تقديم التنازلات من أجل تجنّب الصراعات.
(7) السياسة الخارجية لا تهتم بالاستباقية
السياسة الخارجية يجب أن تكون عملاً استباقياً، لا مجرد رد فعل على الأحداث. إنّ الدول القوية هي التي تفرض أولوياتها ومصالحها بدلاً من أن تُستَدرَج إلى مسارات فرضتها عليها الأزمات. في كثير من الأحيان، تكون السياسة الخارجية كنوع من رد الفعل على الأحداث الإقليمية والدولية بدلاً من أن تكون نهجاً استباقياً. لكن السياسة الخارجية القوية هي التي تستند إلى إستراتيجيات محسوبة، تستطيع عبرها التأثير في مسار الأحداث وتحقيق مصالح البلاد عبر الفعل وليس رد الفعل فقط.
(8) «بلدي أولاً»... شعارات الدول القادمة
يقول جوزيف ناي إنه من الغباء القول «بلدي أولاً»، لأنه لا يوجد أحد يقول بلدي ثانياً، ولكن السؤال هو: أولاً وحيداً أو أولاً مع الآخرين. إن مفهوم «بلدي أولاً» هو مفهوم قديم وأعيد إنتاجه من جديد في ظل صعود الحركات الشعبوية التي تنتمي إلى اليمين المحافظ في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وصار يُعاد تبنّيه من قبل بعض حكومات الدول العربية.
وفي هذا يقول الأديب الفلسطيني تميم البرغوثي: «كل دولة عربية تقول أنا أولاً، ولكن أصبحنا جميعاً آخر». فضلاً عن أن مقولة الدولة «س» أو «ص» أولاً هو شعار شعبوي وللتسويق السياسي، مع ضرورة التمييز بين الخطاب السياسي الداخلي والخطاب الموجّه نحو الخارج الذي لا يصلح أن يكون مقياس استشعار للسياسة الخارجية.
(9) براديم التحالفات في السياسة الخارجية صلبة
إنّ السياسة الخارجية هي فنّ وضْع الأولويات. وليس بالضرورة أن تكون هناك منصّة دائمة لسياسة وحركة الانطلاق. والتحالفات ليست خيراً خالصاً. وهي بالتأكيد ليست مجانية، فهي تأتي بتكاليف ومخاطر قد تفوق فوائدها. والأهم من ذلك، أن كلاً من تكاليف التحالفات ومخاطرها يتغيّران بمرور الوقت. ولذلك، يتطلّب ليس فقط إعادة تقييم مستمر، بل أيضاً إعادة ضبط لذلك. لا وجود لتحالفات صلبة في العلاقات الدولية.
(10) لا تهتمّ لسمعتك في السياسة الخارجية
لا تختلف سمعة الدول كثيراً عن سمعة الناس. ويلزم الدول العمل بتوازن على تدعيم كل مصادر قوتها الناعمة، لكن مجرد امتلاك بلدٍ ما لأصول القوة الناعمة لا يعني أن ذلك البلد أصبح يمتلك قوة ناعمة مؤثرة. وكما يقول جون ميرشايمر، إنّ القادة السياسيين وممثليهم الديبلوماسيين يتبادلون الصدق أكثر بكثير ممّا يكذبون، وحتى عندما يُصرّون على خداع بعضهم البعض، فإنهم غالباً ما يعتمدون على التكتم بدلاً من الكذب العلني، وعادة يميل رجال الدولة والديبلوماسيون إلى الثقة ببعضهم البعض عند التعامل مع قضايا لا تترتّب عليها عواقب إستراتيجية جسيمة في حال كذب أيٍّ من الطرفين.
جريدة الاخبار