د. ياسر عبد الحسين
(السلام يقوم على الحرب تماما كالصداقة القائمة على المساواة )كما يقول ميكافيلي ، تمثل المراحل الحاسمة في تاريخ العالم هي تلك المدة التي تتعلق بحقب ما بعد الحرب ؟ ، ولطالما كانت الدبلوماسية المتعددة الأطراف على طاولة اللاعبين الكبار هي الاستراتيجيات التي تحدد معالم الشكل الهندسي لترتيبات توازنات القوى في البيئة الخارجية .
وفيما يتعلق بمستقبل منطقة الشرق الأوسط ، فأن السؤال المركزي : ماذا بعد داعش ؟ ، يبقى رهين هذه التوازنات بعيدا عن ضجيج المؤامرة و دبلوماسية الصوت العالي ، فان الاجابة عليه تكون من وحي النظرية الواقعية بناءا على النصر العسكري المتحقق على تنظيم داعش في العراق وسوريا .
لحظة الشرق الاوسط الحاسمة جاءت متزامنة مع صعود الشعبوية الترامبية التي تبحث عن التكاليف الاقل ، بما فيها اتاحة التوازنات الاقليمية الجديدة في المنطقة ، وهي تتقدم بخطوات مدفوعة التكاليف على مستوى السياسة الخارجية ، وتتراجع اخرى حينما تكون التكاليف باهضة الثمن وفق قاعدة فن الصفقة التي يجيدها الرئيس ترامب .
كل ما يترقبه العالم اليوم عن دور الدبلوماسية في صناعة السلام.
تاريخيا ، اذا كان صلح وستفاليا (Peace of Westphalia) قد انهى عبر معاهداته حرب الثلاثين عام في الامبراطورية الرومانية ، وحرب الثمانين عام ، فكان اول اتفاق دبلوماسي في العصور الحديثة يرسي نظاما جديدا في اوربا الوسطى بناءا على قاعدة سيادة الدول .
يبدو ان النظام العالمي اليوم على محك الاختبار بين مزيد من الدول الفاشلة أو اختيار انموذج الدولة القومية مع حاجتها للتحديث .
كما يقول الدبلوماسي الأمريكي ريتشارد هاسRichard Haass بأن النظام العالمي قد بلغ مرحلة الانحلال، وأنه لا حل ألا بنظام جديد يجمع بين المبادئ التقليدية المتمثلة في سيادة الدول والقوة العظمى ، وقيام الدول ككيانات ذات سيادة ليس على مصالحها فقط بل على واجباتها أيضا .
اعادة دومينو النظام العالمي ما بعد الحرب ، كان في انموذج مؤتمر يالطا الذي رسم ملامح الأتفاق الموقع بين الأتحاد السوفيتي بزعامة ستالين ، وبريطانيا بزعامة تشرشل ، والولايات المتحدة الأمريكية بزعامة روزفلت ، حيث رسم هذا الاتفاق ترتيبات ما بعد الحرب .
وأمام الشرق الاوسط يالطا جديدة ، محورها ( موسكو ، طهران ، انقرة ) دول المثلث تحاول رسم سياسة المنطقة ما بعد حرب داعش في سوريا والعراق .
بين يالطا القديمة والجديدة كثير من المتغيرات ، ومابين ساحل البحر الاسود ، ومدينة سوتشي الروسية ابعاد تتجاوز التأثير القديم ، في اعادة الهندسة الاقليمية لمرحلة ما بعد الحرب ، والتي سوف تكون بوابة التأثير الأكبر في صياغات الترتيبات العالمية .
ارث الدبلوماسية الروسية إبان الحرب الباردة التي رفعت شعار ( صافح بيد واحمل الحجر بيد أخرى) ، تقدم اليوم بطريقة اخرى .
تهاوي شكل النظام القديم في صناعة السلام الى نظرية اعادة الترتيب الاقليمي اعتمادا على فرضية التوازن الاقليمي المتماثل في طاولة التسويات .
ما بين لقاء الزعيم الروسي بوتين مع الرئيس السوري بشار الاسد في مدينة سوتشي ، اعقبها سلسة من الاتصالات الدبلوماسية التي جمعت بوتين وترامب وملك السعودية ولقاء روساء اركان روسيا وتركيا وايران كلها مؤشرات لوضع ملامح هذا الشكل الجديد.
لقاء الثلاثي ( بوتين – روحاني – اردوغان) وفق مصادر الكريملن سوف يؤكد على مضامين الحل السلمي وترتيبات ما بعد الحرب أساسها :
1- الحفاظ على وحدة الأراضي السورية .
2- مستقبل الرئيس السوري بشار الاسد يحدده الشعب السوري .
3- الحفاظ على النظام السوري بعيدا عن الجماعات الريديكالية.
تبدو قمة سوتشي تأتي في أطار ايجاد حل سياسي ، كما جاء في قرار مجلس الامن الاخير المرقم 2254 والمساهمات في رسم خارطة الطريق بين جنيف واستانة .
تبقى رمزية مدينة سوتشي الروسية مدينة الالعاب الاولمبية تحمل بين طياتها رسالة السلام عبر دبلوماسية تحاول تجاوز لغة الحرب ولكن من موقع القوة ، صحيح ان المسافة شاسعة بين اليقين والتفاؤل في العمل الدبلوماسي لكن بالنتيجة تبدو الامور تمضي باتجاه التفاهمات والحوار .
ترتيبات السلام في العلاقات الدولية غير ترتيبات الحرب ، ومرحلة ما بعد الحرب أقسى من الحرب ذاتها ، وتبقى الدبلوماسية المتعددة الاطراف في القمم الرئاسية لا تحسم كل شيء ، وتبقى اشكال التحديات الجديدة صورة مختلفة تماما، والأوراق بعد لم تطوى .
خارطة سوريا الجيوسياسة ستعيدها يالطا سوتشي بتوقيع حلفاء واتفاق مع الغرماء .
واقعيا لن تتغير الامور كثيرا ، لكن بالطبع ستكون هناك الكثير من المفاجأت التي سوف تعيد توازن القوى الاقليمي وظهور انماط جديدة من اليات السيطرة في المنطقة ، التي سوف يحكمها اصحاب الريادة .
في عالم ما بعد الحداثة لن يكون هناك تقسم لمناطق النفوذ لكن سوف تتغير موازين التأثير السياسي في المنطقة .
الفارق النوعي يحصل داخل المدن ، وليس الدول، وكأن جغرافيا المكان تخبرنا في سياق التفاوض الدولي عن ظاهرة ( مدن الفعل ) و ( مدن التفاوض) في المشهد الاقليمي ، وانسجام المدن سوف يؤدي الى تحقيق النتائج المطلوبة .
هذا التوازن الأقليمي لن يكون بالفعل بين معسكر شرقي واخر غربي ، بقدر ما سوف يملأ الفراغ الأقليمي معززا بخارطة انابيب الغاز في المنطقة .
روسيا 2018 التي تبحث عن الفوز بكأس عالم سياسي جديد ، وتركيا ما بعد انقلاب تموز ، وايران في عهد الولاية الثانية لروحاني ، وتراشق التصريحات مع واشنطن حول الأتفاق النووي .
مدن الفعل ( الرقة ، البو كمال ، الموصل ، الانبار ) ومدن التفاوض ( جنيف ، استانة ، سوتشي ، طهران ، انقرة ، انطاليا ) ترسم ملامح هذا النظام الاقليمي الجديد.