د. ياسر عبد الحسين
تهافت المجتمع الافتراضي الفيسبوكي العربي على صورة الشاب الجميل صاحب العيون الزرقاء ، (سباستيان كورتس) وزير الخارجية النمساوي ، من مواليد 1986 الذي يعد أصغر وزير خارجية في العالم ، والحاصل على شهادة ثانوية فقط ، ودقت الاقلام العربية الذكورية الدفوف ، وهللت الانثوية منها الى الاعجاب الشديد بهذه الشخصية الشابة ، التي استطاعت ان تصبح على رأس صنع القرار في بلدها ، متجاوزة الاعراف التقليدية والبؤس السياسي بان الحكمة والريادة في عالم فن الممكن تكون لمن بلغ من الكبر عتيا ، وان الحصاد لن يأتي الا لمن أبيض شعره ، حتى وان كان قد صبغها بصبغة سوداء في دكاكين المكياج السياسي ، غير مهم ان حضرة السياسي العتيق قد اكساه الترهل البيروقراطي ، وقل بصره عن رؤية مطالب العباد ، وضعفت اوداجه في ادارة المؤسسات، وعلا صوت شخيره على صوت الناس ، وامتدت مراهقته المتأخرة عذرا ، ولكن وان ضعفت كل اعضاءه ، الا عضوا واحدا سيبقى ، حتى وان مات جسده ، كما يقول الشاعر الكبير مظفر النواب (أعلنت التعبئة الجنسية..حزنوا هزا..رهزوا رهزا..ومضاجعة..وتمنّوا..انهم كانوا بمخيمك الدامي ...) ، مكتبته خالية الوفاض كعقله، لا كتاب فيها الاكتاب واحدا ، اصفرت ورقاته وهو ( عودة الشيخ الى صباه ) ، هم ابطال وهميون في مجتمع رعوي كما اسماهم علي الوردي .
ويبدو ان هذا النمط والمقياس من أنساق الثقافة العربية التي ترى ان الشباب والسياسة مجرد مشروع يافطة ( + 18)، وعلى وقع عزف المثلث التربوي ( حرام ، عيب ، ممنوع ) لكي لا تزاحم صاحب الكرش الكبير رعشة الامل ، هذا الانساق مضحك فقد شمل حتى ثورات الخريف العربي ، التي كان من المؤمل ان يكون قادتها من الشباب ، فاليوم يبلغ عمر الرئيس التونسي مسقط الشرارة الاولى 85 عاما ، فأين دور الشباب ، واين يقع من حراك سمي بثورة شباب الفيس بوك وتويتر، وكأن الشباب فيها جزء من الديكور السياسي .
هذا الاعجاب العربي بظواهر تمكين الشباب السياسي ، غير حقيقي ، بل ظاهرة صوتية ، ولن أفسره الا وفق قاعدة ( ان الشعوب العربية تصوت في الانتخابات لانظمة دينية لكنها تريد العيش في ظل أنظمة علمانية ) ، لكن يبدو ان المجتمع الاوربي والنمساوي تحديدا كسر قيود التردد السياسي التي ارهقت بناء الدولة ، والرأي العام في العالم ، لم تنظر بعيون العمر البايلوجي عندما شاهدت فارق السن الكبير بين الوزير النمساوي الصغير ونظرائه من الدول الأخرى ، وعلى سبيل المثال فهو يكبر نظيره الامريكي جون كيري باكثر من 43 عاما ، وعن وزير الخارجية السعودي الاسبق سعود الفيصل اكثر من 46 عاما .
الاسوار الاجتماعية التي تكسر اجنحة الشباب من اجل الانطلاق في العمل السياسي ، عجيبة كل العجب ، تجمع بكل جوانبها التسقيطية ثقافة العناكب التي تعشش في ثنايا العمل السياسي ، والحرس القديم واسوار الكهولة السياسية من اصحاب المنافع الذين سيطروا على العمل السياسي ليس هم السبب الوحيد عن عزوف الشباب عن العمل السياسي ، بل ان الثقافة الاجتماعية العراقية هي التي ساهمت في منح لقب ( الزعطوط ) لكل شاب رغب في العمل بشكل عام ، والعمل السياسي بشكل خاص، ومفردة الزعطوط كما بحثها في حفرياتها الاجتماعية الباحث العراقي رشيد خيون انها جاءت من لغة العراق الآرامية ، وحسب المفردة المندائية ( زوطا) ، وتعني الطفل ، وتناقل هذا الارث لجموع العراقيين .
لن اتوقع مستقبلا ان يصوت الجماهير للشباب السياسي ، رغم ان اغلبيتهم من الشباب فالعراق على سبيل المثال حسب تقرير صندوق الامم المتحدة للسكان ان العراق يواجه إنفجاراً شبابياً، وهو مصطلح خاص بتعداد السكان يصف الدول التي يمثل الشباب الشريحة الأكبر من السكان فيها ، على الرغم من المشاركة السياسية للشباب في الانتخابات ، بعد ان وضعها المشرع العراقي بان سن الترشيح للانتخابات الى 30 عاما ، على الرغم من الدستور العراقي سمح للشباب بعمر 18 سنة الادلاء باصواتهم في الانتخابات ، وحتى ان قانون الاحزاب الجديد 2015 الذي صوت عليه البرلمان يضع عمر 25 سنة لتأسيس حزب .
العمر البايلوجي لم يكن بحد ذاته عائقا ، في الخير او الشر ، ماذا يعني ان يكتب محمد باقر الصدر اعظم كتب فلسفية وعمره 26 عاما وسط اساطين الفقهاء ، وماذا يعني في اوكار الشر ، ان صدام حسين كان عضوا في القيادة القومية لحزب البعث وعمره 25 عاما ، وان مؤسس حزب البعث فؤاد الركابي عندما ارسل مبعوثا سياسيا الى جمال عبد الناصر كان عمره 21 عاما !!!.
الشباب العراقي لا ينقصه التأهيل الاكاديمي العلمي ولا الاخلاقي ولا الشخصي ، تجربتي المتواضعة في ادارة مركز للدراسات والابحاث ، اكتشفت فيها شباب اصحاب علم ومعرفة وقدرة في العلوم السياسية والدبلوماسية مميزة ، لديهم مؤهلات يصعب الحديث عنها ، يكيفنا فخرا ان كبار اساتذة الجامعات العربية والعالمية يقولوا لهم : انكم مدربون بشكل عال لتمثيل بلدكم .. وهم تدربوا في مؤسستنا ، واخرين يطلبون توظيفهم في مؤسساتهم .. واخر يقول لهم انتم من عبرتم عن حقيقة العراق ، ولهذا لديهم تعبير ممتاز عن الهم العراقي بلغة دبلوماسية راقية وفي حوارات لساعات طويلة مع رجال الفكر والسياسة والثقافة ، وكانت كلمة ( عظيم ) من السيد الضيف تتلى تباعا بعد كل تحليل وسؤال من هولاء الشباب ، حملوا هموم ورسائل الصراحة والذكاء ، شجعانا في حملهم حب العراق الى الاخر المختلف فكرا وبيئة ..هكذا عرفت هولاء الشباب ( الزعاطيط ) الذين عملوا ما عجز عنه دبلوماسيين مخضرمين وكتاب كبار .
عموما فالشباب الذين هم يقودوا مظاهرات الاصلاح في العراق اليوم، والشباب هم ممن حملوا لواء الحشد الشعبي ، والرحم العراقية ليست بالعقيمة ، وفي نفس الوقت لا تلوموا المهاجرين الشباب ، فان منعطف الأغتراب السياسي كبير وخسارته كبرى من ابناء هذا البلد ، وهل سنقف كما وقف الجواهري ذات يوم وهو في بلاد الغربة باكيا متشوقا لنقيق الضفادع قائلا: ( أرأيتم شاعرا يحن إلى نقيق الضفادع انها تذكرني بدجلة والدار )، انقذو شباب العراق من القتل ، اقصد في إحباطهم وقتل المواهب وفض بكارة الاحلام ، المبدع الشاب العراقي يجب ألا يقف ، وإن رشقه الأقزام بالحجارة، ستحوله بالنهاية الى تمثال يلتف حوله الجميع ويشير له الاخرون بالبنان .